انتخابات أنقرة- العدالة والتنمية يسعى لاستعادة العاصمة في منافسة شرسة

في مشهد جماهيري بهيج، أتم حزب العدالة والتنمية، الحزب الحاكم في تركيا، الإعلان عن قائمة مرشحيه لخوض غمار الانتخابات المحلية القادمة، وعلى رأسهم مرشحه لمنصب رئيس بلدية العاصمة أنقرة، حيث تم اختيار تورغوت ألتينوك، الرئيس الحالي لبلدية كاجي أوران الفرعية المتميزة في أنقرة.
استكمال المرشحين
سبق للحزب أن كشف، خلال فعالية سابقة، عن أسماء مرشحيه لقيادة 26 بلدية في أرجاء البلاد، من بينها 11 بلدية ذات ثقل استراتيجي باعتبارها "مدينة كبرى"، وفي مقدمتها بلدية إسطنبول الكبرى، والتي رشح لها وزير البيئة السابق مراد كوروم، في إشارة واضحة إلى الأهمية القصوى التي يوليها الحزب لاستعادة زمام الأمور في هذه البلدية المحورية، وكذلك للدلالة على قوة المنافسة المتوقعة.
وقبل أيام قلائل، وفي احتفالية أخرى، استكمل الحزب الحاكم الإعلان عن مرشحيه لبقية البلديات، معلنًا عن أسماء قادته المستقبليين في 48 بلدية، من بينها 17 مدينة كبرى، وعلى رأسها العاصمة الحيوية أنقرة. وبذلك، يكون حزب العدالة والتنمية قد كشف النقاب عن مرشحيه في 74 محافظة، في حين آثر عدم تقديم أي مرشح في المحافظات السبع المتبقية، معلنًا عن دعمه الكامل لمرشحي حزب "الحركة القومية" المتحالف معه.
كما صرّح أردوغان بأن حزبه سيقوم بنشر البيان الانتخابي المفصل، الذي يمثل برنامجه الانتخابي الشامل، في نهاية الشهر الجاري، وسيستكمل الإعلان عن مرشحيه للبلديات الفرعية الواقعة داخل المدن الكبرى قبل الموعد النهائي المحدد في منتصف الشهر المقبل. ولم يغفل أردوغان، خلال كلمته المطولة، أن يشير إلى الأهمية البالغة للانتخابات المحلية، مؤكدًا أن الناس قد عرفوه هو ورفاقه عن كثب من خلال العمل البلدي، وأن حزبه قد بدأ "رحلة خدمة الشعب" من خلال هذه المحافل المحلية.
على النقيض من رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، ركز يافاش جهوده على خدمة المدينة من خلال عمله في البلدية، وتجنب الخوض في السجالات السياسية والمناوشات الحزبية إلى حد كبير، باستثناء مشاركته المحدودة في الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة. ونتيجة لذلك، لم تشهد سنوات رئاسته للبلدية مواجهات حادة أو خلافات مستمرة بينه وبين حزب "العدالة والتنمية".
في المجمل، تبنى الحزب الحاكم استراتيجية التجديد في اختيار المرشحين، حيث قرر عدم التجديد لسبعة من رؤساء البلديات الحاليين، بمن فيهم رؤساء بلديات أربع مدن كبرى، والذين كان جزء كبير منهم ينتمون إلى المحافظات التي تضررت بشدة جراء الزلزال المدمر الذي وقع في شهر فبراير/شباط الماضي. وباستثناء محافظتي غازي عنتاب وأورفة، لم يجدد الحزب ترشيح أي رئيس بلدية آخر في المحافظات المتضررة من الزلزال، في محاولة جلية للتجاوب مع الغضب الشعبي المتصاعد هناك، حيث تحمل البلديات مسؤولية كبيرة عن حجم الضرر الذي تسبب به الزلزال، نظرًا لمسؤولياتها المباشرة في منح تراخيص البناء والإشراف الدقيق على المشاريع.
واستمر الحزب في سياسته المعهودة بتقديم مرشحين يتمتعون بالكفاءة والقدرة من بين الأسماء اللامعة والمعروفة في المجال البلدي أو داخل الحزب، حيث كان العديد من مرشحي المدن الكبرى من رؤساء البلديات الفرعية فيها، كما برزت أسماء قيادية لامعة في الحزب، وفي مقدمتها نائب رئيس الحزب حمزة داغ، الذي تم ترشيحه لرئاسة بلدية إزمير، التي تعتبر قلعة حصينة تاريخية لحزب "الشعب الجمهوري" المعارض.
حسابات العاصمة
في الانتخابات المحلية التي جرت عام 2019، تمكن مرشح حزب "الشعب الجمهوري"، منصور يافاش، من الفوز بمنصب رئيس بلدية أنقرة الكبرى، بعد حصوله على نسبة 50.9 % من الأصوات، مقابل نسبة 47.1 % التي حصل عليها مرشح "العدالة والتنمية"، الوزير السابق محمد أوزحسكي. وعلى غرار ما حدث في إسطنبول، كان أهم أسباب خسارة "العدالة والتنمية" للبلدية التي أدارها مليح جوكجاك لمدة ربع قرن من الزمان هو التحالف القوي بين أبرز أحزاب المعارضة لدعم مرشح "الشعب الجمهوري"، حيث إن رصيد الأخير في أنقرة لم يكن ليؤهله بمفرده لتحقيق هذا الفوز، حيث حصل على نسبة 37.8 % فقط من مقاعد المجلس البلدي، خلف "العدالة والتنمية" الذي فاز بنسبة 41%.
كما كان اختيار المرشح المناسب عاملاً حاسمًا في تلك الانتخابات، حيث رشح "العدالة والتنمية" وزيرًا سابقًا من خارج مدينة أنقرة وذا خلفية محافظة، بينما رشحت المعارضة يافاش، الذي يتمتع بأصول قومية، مما مكنه من الحصول على أصوات ناخبي "الشعب الجمهوري"، بالإضافة إلى أصوات العديد من القوميين، (حيث حصل الحزبان القوميان، الحركة القومية والجيد، مجتمعين على 14 % من مقاعد المجلس البلدي لأنقرة، بواقع 7 % لكل منهما)، و أصوات المحافظين الذين لم تكن لديهم مشاكل علنية معه. كما كان التصويت الاحتجاجي ضد "حزب العدالة والتنمية" بشكل عام من بين أهم الأسباب التي أدت إلى فوز يافاش.
بالمقارنة، ستكون معركة الفوز ببلدية أنقرة أكثر حدة وضراوة من المنافسة في إسطنبول، وسيكون استعادة "العدالة والتنمية" لها مهمة أصعب، ويرجع ذلك في الغالب إلى عوامل تتعلق بشخصية رئيس البلدية الحالي، يافاش نفسه. فعلى عكس رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، ركز يافاش بشكل كبير على مباشرة مهام منصبه في البلدية وأبقى نفسه بعيدًا عن المعارك السياسية والمناوشات الحزبية قدر الإمكان، باستثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة. ونتيجة لذلك، لم تشهد سنوات رئاسته للبلدية الكثير من المواجهات أو الخلافات الحادة بينه وبين "العدالة والتنمية"، بل جمعته بعض اللقاءات الودية مع أردوغان وعدد من الوزراء، على عكس إمام أوغلو.
كما يتمتع الرجل بسمعة طيبة في أوساط المجتمع خلال فترة قيادته للبلدية، ولم يُوصم بأي إخفاق كبير أو تقصير ملحوظ أو يتسبب في إثارة جدل واسع، بل يُقيَّم عادةً كرئيس بلدية ناجح ومثابر، مما عزز من فرص تجديد ترشيحه من قبل حزب "الشعب الجمهوري".
والأهم من ذلك، أن الخلفية القومية للرجل تعزز بشكل كبير من فرصه في الحصول على نسبة لا يستهان بها من أصوات القوميين في المدينة، على الرغم من إعلان حزب "الجيد" عن نيته تقديم مرشح مستقل به ودعم "الحركة القومية" لمرشح حزب "العدالة والتنمية".
فرص الفوز
في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت قبل أشهر قليلة فقط، حصل حزب "العدالة والتنمية" في مدينة أنقرة على نسبة 40.4 % من الأصوات، وحليفه حزب "الحركة القومية" على 13.1%، في حين حصل حزب "الشعب الجمهوري" على 26.1 %، وحزب "الجيد" على 12.1 %، وحزب "الشعوب الديمقراطي" على 6.4 %. ولذلك، فإن أهم ما يعول عليه حزب العدالة والتنمية لاستعادة بلدية العاصمة هو انهيار التحالف بين حزبي "الشعب الجمهوري" و"الجيد"، ونية الأخير تقديم مرشحه الخاص، بالإضافة إلى توقع عدم تحمس "الأصوات الكردية" للتصويت ليافاش بسبب جذوره القومية الواضحة.
في المقابل، يراهن حزب "العدالة والتنمية" على حصول مرشحه على دعم كامل من أنصار حزب "الحركة القومية"، وأصوات بعض الأحزاب المتحالفة معه، مثل حزب "الاتحاد الكبير" (ذي التوجه القومي)، وربما أصوات الأحزاب المحافظة ضعيفة الحضور، لا سيما بعد خلافاتها الأخيرة مع حزب "الشعب الجمهوري".
وهنا، يبرز اختيار الحزب الحاكم لمرشحه لبلدية أنقرة الكبرى، رئيس بلدية كاجي أوران الفرعية، تورغوت ألتينوك، الذي يمثل ابن أنقرة الأصيل، فهو من مواليدها ومنشئها وعاش وعمل فيها طوال حياته. فالرجل معروف بجذوره القومية العميقة وانضم إلى العديد من الأحزاب المحافظة، حيث كان في بداياته مساعدًا لسكرتير رئيس حزب "الحركة القومية"، وفاز بمنصب رئيس بلدية كاجي أوران عام 1994 ممثلاً عن هذا الحزب، ثم فاز بالبلدية نفسها عام 1999 ممثلاً عن حزب "الفضيلة" (الإسلامي)، ثم فاز بها مرة أخرى عن حزب "العدالة والتنمية" في عام 2004، حيث كان من بين مؤسسيه البارزين. وعلى الرغم من أن الرجل قد استقال من حزب "العدالة والتنمية" وترشح لمنصب رئيس بلدية أنقرة الكبرى (وخسر الانتخابات) ممثلاً عن حزب "الاتحاد الكبير" (ذي التوجه القومي المحافظ) في عام 2014، وكانت ابنته من بين مؤسسي حزب "الجيد"، إلا أنه عاد لاحقًا إلى صفوف حزب "العدالة والتنمية" وفاز بمنصب رئيس بلدية كاجي أوران مجددًا في عام 2019.
وبناءً على ذلك، فإن الرجل يتمتع بشهرة واسعة ومعرفة عميقة لدى معظم الأحزاب القومية والمحافظة في المدينة، بل إنه تنقل بينها فعليًا، وكان لديه دائمًا طموح مشروع برئاسة البلدية الكبرى في أنقرة. وبالنظر إلى الحضور القومي الواضح في العاصمة، وتوقع الحياد النسبي للصوت "الكردي"، وعدم دعم الأحزاب المحافظة حديثة التأسيس ليافاش، وتقديم حزب "الجيد" مرشحًا خاصًا به، يرى حزب "العدالة والتنمية" أن فرصه في استعادة البلدية كبيرة وواعدة.
لا شك أن فرص الحزب الحاكم في الفوز ببلدية أنقرة في الانتخابات القادمة تبدو أفضل بكثير من سابقتها، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أن الأمر سيكون سهلاً وميسرًا. فقد ترك يافاش بصمة واضحة وملموسة في قيادة بلدية العاصمة على مدى السنوات الخمس الماضية، كما أن توجهات الأصوات القومية لا يمكن ضمانها بالكامل حتى في ظل قرار حزب "الجيد" بعدم دعمه، فضلاً عن أن منظومة التحالفات وعلاقات الدعم المتبادل يمكن أن تشهد تغييرات جذرية حتى يوم الاقتراع، وهذا ما يميز طبيعة السياسة التركية.
كما أن تصويت الناخبين في الانتخابات المحلية يختلف اختلافًا جوهريًا عن تصويتهم في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ولذلك قد تشهد الانتخابات المحلية نوعًا من التصويت الاحتجاجي على سبيل المثال، فضلاً عن التراجع النسبي والمستمر في شعبية حزب "العدالة والتنمية" في السنوات الأخيرة، وعدم وضوح توجهات الأحزاب الجديدة وتأثيرها المحتمل، لا سيما مع الانتقادات اللاذعة التي وجهت إلى الحزب الحاكم بخصوص طريقة تعاطيه مع العدوان الغاشم على غزة.
في الخلاصة، يمكن القول بثقة أن فرص حزب "العدالة والتنمية" في انتخابات بلدية أنقرة الكبرى ستكون أكبر بكثير من الانتخابات السابقة بشكل ملحوظ، وسيحظى بفرصة ذهبية لاستعادة زمام الأمور في العاصمة، بل إننا نرى أن كفته سترجح على كفة خصمه بشكل نسبي. ولكن الرئيس الحالي يظل منافسًا قويًا وصلبًا، ولن تكون هزيمته أمرًا سهلاً على الإطلاق، فضلاً عن احتمال تأثير أي تطورات أو مستجدات محتملة على النتائج النهائية. ولذا، فما زال الوقت مبكرًا نسبيًا للتكهن بنتيجة نهائية دقيقة وحاسمة، فكما يُقال دائمًا، 24 ساعة تعتبر وقتًا طويلاً جدًا في عالم السياسة التركية المتقلب.